الحبيب ناصري
يشكل الفيلم الوثائقي، بوابة جوهرية لتقريبنا من مجموعة من المعاناة، التي يعانيها الإنسان، وهو يبحث عن لقمة العيش، مهما كانت مرجعيته الاجتماعية، ومهما كانت جنسيته أو ثقافته. في مقالنا هذا، سننبش في ما يمكن تسميته، بالسينما الوثائقية المنجمية العمالية، ونقصد بها تلك السينما المتتبعة والباحثة في وضعية العامل المنجمي.
هوفمان وتفكيك مسار منجم الفحم الفرنسي.
فيلم، “بين الجبال السود”، لمخرجته، فرجيني هوفمان الفرنسية، فيلم من الممكن أن نسافر معه، في الزمان والمكان الفرنسيين. نقصد بهذا، أن المخرجة الفرنسية، حاولت من خلال فيلمها هذا، تفكيك مسار المنجم الفحمي المفكك بقرار سياسي فرنسي ولعوامل اقتصادية تتعلق بطبيعة عدم حاجة فرنسا لهذه المناجم الفحمية، التي بنت عليها ومنذ زمن طويل اقتصادياتها، ومن أجل هذا جلبت العديد من الفئات العمالية، ومن دول متعددة وفي مقدمتها الدول التي كانت تستعمرها فرنسا مثل المغرب والجزائر وتونس الخ، بالإضافة إلى فئات فرنسية أخرى، ومن جملتها أب المخرجة.
الفيلم، رحلة في الذاكرة المنجمية العمالية، رحلة بين بدايات هذا المنجم، ونهايته المأساوية، حيث إغلاقه، ومن تم نهاية بنية علائقية اجتماعية وثقافية خصبة، كانت قد شكلت بتلك القرية المنجمية، “علاقات وصداقات عائلية الخ”، بل المكان هنا، بالنسبة للمخرجة جزء كبير من هويتها التربوية والاجتماعية، حيث في هذه القرية المنجمية ولدت وتعلمت خطواتها الأولى.
في حدود عنوان الفيلم.
منذ الوهلة الأولى ونحن نتابع فيلم، بين الجبال السود، نكتشف أن الجبال هنا تتساير ومحطتين دلاليتين قويتين. فالدلالة الأولى، مرتبطة بالجانب الكمي الفحمي، بينما الدلالة الثانية، هو ما آلت إليه حياة هذه الفئة من العمال، بعدما أقفل المنجم، وكيفية تحويل هذه القرية النموذجية، إلى مكان مهجور، مما دفع من تبقى على قيد الحياة ومن جنسيات مختلفة إلى خوض معركة اجتماعية/ثقافية ضد الجهات المسؤولة، قصد إعادة الاعتبار للمنجم وقريته.
مكونات الفيلم الوثائقية.
بلعبة فنية/سردية طفولية ممتعة، تجلت في تقديم طفلة صغيرة وهي تتعلم الوقوف، وتشجع من طرف أمها، وأبوها يصورها بكاميراه، افتتح الفيلم قوله الوثائقي وبلغة ضمير متكلم هو للمخرجة هوفمان. لحظة دالة من خلالها مررت المخرجة خطابها القوي، بكونها ولدت في أسرة منجمية وفي هذا المكان المنجمي، وفي منزل الأب العامل المنجمي، ومن هذا الحكي حلقت بنا بل هزتنا جميعا من لحظة الحكي الطفولي الجميل، لتحطنا في ما آلت إليه حالة وقرية وعمال هذا المنجم. هنا ضمنت المخرجة تماهي المتفرج معها بل ضمنت ومنذ البدء شرعية قضيتها المطروحة في الفيلم.
مجموعة من العمال ومن جنسيات مختلفة، وحيث أن قوة الزمن لعبت في تجاعيد وجووهم وأياديهم، يتحلقون حول مائدة صغيرة في مكان ضيق، يتداولون صور بالأبيض والأسود،لحظات استحضار الماضي، هي دوما لعبة سيكولوجية قوية ودالة. الماضي هنا ماضي العطاء، وقهر الطبيعة واستخراج الفحم من عمق الأرض، لضمان شروط عيش كريم فوق الأرض. ضحك واستحضار للحظات الحفر وتقاسم طعام جماعي، وتبادل الذكريات والحفر في ذاكرة كل واحد قصد “القبض” على زمن جميل هارب…موسيقى هادئة حنينية مصاحبة لهذه اللحظات الممتعة، سرعان ما سيتكسر الحكي الفيلمي الوثائقي المنجمي العمالي الإيجابي هنا، نحو حاضر تنكر فيه من كان يملك المنجم، نحو زمن آخر زمن التقنية والبحث عن الربح السريع. هنا تمزق الذات العاملة بين ماض مشرق ومزدهر ومتميز، وبين حاضر هاجسه البحث عن كيفية ضمان “لقيمات” عيش بسيط في ضواح وهوامش مدن فرنسية، تعيش “عنف” الحياة.
العودة إلى المنجم/الذاكرة.
حتى تكتمل الصورة الوثائقية هنا، تمت زيارة هذا المكان، أي المنجم الذي من الممكن اعتباره وبلغة باشلار، في مؤلفه، “جمالية المكان”، بمثابة شخصية قوية دالة تتحكم في توليد الحكي الدال. الرائحة هنا ليست رائحة عادية، بل كلما نزلت المجموعة في عمق المنجم، كلما تم استحضار الماضي. هو سفر في أزمنة الفحم الحجري الأسود، لكنه هنا مولد للحظة بيضاء، في زمن شيخوخة سوداء. هي ذروة فيلمية وثائقية، أمسكت بها المخرجة، وصاحبتها بموسيقى ذات دلالة حنينية مؤثرة، هو سفر زمكاني بامتياز. سفر تماهى معه المتفرج، ليعيش لحظتهم الممتعة في الماضي، هنا يتم هدم الجدار الفاصل بين ما تحكيه المخرجة وبين من يتفرج. لعبة سردية وثائقية من النادر القبض عليها من طرف المتفرج.
نحو الرغبة في إعادة إحياء الإنساني في القرية المنجمية
وحده القدر الفيلمي الوثائقي، قادهم إلى فكرة إعادة إحياء قريتهم المنجمية، فكرة كانت وليدة سفرهم واستحضارهم لمنجمهم ومن تم خروجهم نحو قريتهم التي كانت تعيش حالة نسيان كبير. ذروة تلذذية أخرى عشناها مع المخرجة حينما زارت صحبة أبيها مكان ولادتها، مكان بداية تشكل رؤيتها الطفولية الأولى نحو هذا العالم. ومن أجل كل هذا سيتم تأسيس جمعية مدنية من هؤلاء المتقاعدين، لتفتح حوارا جادا مع من بيدهم القرار، قصد إعادة إعمار هذه القرية المنجمية، أي قصد صيانة جزء من ذاكرة هؤلاء الناس، وتحويل منجمهم، إلى متحف شاهد على مرحلة نوعية من عمر فرنسا الاقتصادي.
على سبيل التركيب.
فيلم” بين الجبال السود” لمخرجته الفرنسية هوفمان، هو رحلة ممتعة في ذاكرة فئة العمال المنجميين وما ترتب عن قرار الإغلاق من محو لذاكرة إنسانية بامتياز.