منذ عدة أيام، وكلمة الهشاشة “تطنطن” في رأسي، حاولت، وأنا أسأل، وكالعادة نفسي، ما السر في تراقص هذه الكلمة في “دماغك” و”عقلك” ؟. مرات عديدة شاهدتها تتراقص أمامي . حللت نفسي وفق كل ما تعلمته ودرسته وكونت به طلبتي، فتأكد لي بالملوس أنها حصاد ما عشته ولا زلت أعيشه في ظل هذا الزمن العربي الرخو. حاولت أن أجد لها مخرجا، أتقاسمه مع القراء، باعتبار القراءة والتقاسم، هو ما تبقى لنا في زمن عولمة لا ترحم ولا تغازل أحدا، وفي زمن ينام فيه الإنسان وينهض صباحا ليجد نفسه قد أصبح “نجما” بارزا، والكل يتهافت عليه، وهو الذي لا يستطيع موقعة نفسه في زمنه ومكانه، فقط لأنه قام بحركة “حمق” أعجبت الناس.
لم أجد “أحلى” من أن أربطها بلفظة الثقافة، فتحقق بهذا، العنوان الذي طرحته سابقا، أي الهشاشة الثقافية. عادة ما تروج كلمة الهشاشة في حقل اجتماعي أو طبي (كهشاشة العظام)، الخ. لكن، حينما تم الجمع بين لفظتين بعيدتين، تحققت “الغرابة” وبلغة النقد العربي القديم، وقبله النقد اليوناني، وقبلهما، الطبيعة النقدية الإنسانية، وبلغة جون كوهن في العصر الحديث، تحقق الانزياح.
كلما أخرجنا الكلمات من سياقاتها البسيطة والعادية والتقريرية، تحقق لنا ما لا يمكن توقعه. خلخلة الجاهز والبحث عن الممكن، فعل لابد منه، لنختبر ما راكمناه من تعلمات، لاسيما ونحن نعيش زمن “اللاثقافة” وبكل “امتياز”. ما الذي جعلني، إذن، أربط بين كلمتين “متناقضتين”، منحتني فهما كنت أبحث عنه منذ عدة أيام، لاسيما، في ظل هذا الواقع الذي تختلط فيه العديد من الأوراق وتتغير فيه القيم، وننتشل نحو القاع، ولم يبق إلا سماع رنين “السقوط” المدوي في البئر، في زمن يعرف فيه شبابنا أسماء فرق كرة القدم بشكل مذهل، في حين لا يعرفون أسماء من قبيل محمد عابد الجابري ولا العروي ولا طه عبد الرحمان ولا محمد سبيلا ولا محمد جسوس ولا أحمد البوعناني ولا محمد عصفور ولا محمد زفزاف، الخ.
الهشاشة الثقافية، تركيب لغوي ودلالي، يخدم طبيعة الواقع الذي نعيشه في عوالمنا العربية الجريحة بثقل الصراعات الطائفية والمذهبية والقبلية، في زمن أصبح العالم يقفز بخطوات ضوئية رهيبة جدا نحو مستقبل لا نملك فيه حبة رمل واحدة. قصدي بها، من الصعب محاربة الهشاشة الاجتماعية، دون جعل الثقافة المدخل الحقيقي لكل رغبة حقيقية في تنمية حقيقية تروم بناء الإنسان، قبل بناء الجدار. طبعا، استعمالي للثقافة هنا، هو من موقع شمولي تحضر فيه حتى التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، الخ. الثقافة في نهاية المطاف، هي ما يتبقى. هي الوجه الحقيقي لكل المجتمعات البشرية ومنذ بداية التاريخ. طبعا، الثقافة هي تراكمات وإرادة سياسية حقيقية وفعل مجتمعي متكامل. وحدها الثقافة، المعيار الحقيقي الذي به نقيس طبيعة تحولات المجتمعات، لاسيما تلك الباحثة عن مقعد تحت الشمس. ما الذي يجعلنا نتهافت على سلع ألمانيا من أبسط صناعاتها إلى البحث عن كيفية الهروب إليها والبقاء في كنفها؟. كيف من الممكن تفسير هروب حتى فقهائنا للعلاج في مستشفياتها؟. لماذا رهن بعض شبابنا أحلامهم بمتابعة الدراسة في جامعاتها والزواج ب”زعرة” من بناتهم؟.
أسئلة محرجة لنا جميعا، لكوننا لا زلنا لم نستطع خلخلة هذه الهشاشة الثقافية التي تنخر عظامنا ورؤوسنا. هشاشة هي أخطر من تلك الاجتماعية والسياسية وغيرهما. كلما تقدم بي العمر، أحسست أننا لن نقفز قفزة حقيقية في التاريخ العربي، دون علاج حقيقي لهذه الهشاشة. يكفي أن نبحث عن عدد ما تطبعه مطابعنا العربية من كتب، وما نقرأه وما نبيعه ومعدل القراءة في مجتمعاتنا العربية، الخ، لنصاب بدوخة تجعل الشعور بالهشاشة الثقافية يزداد. لن ننكر بعض المجهودات المهمة وبعض النيات الحسنة لدى بعض ممن بيدهم القرار، لكن، من الصعب أن نبني مستقبلا عربيا حقيقيا، دون التفكير في كيفية تطوير سؤال القراءة ومن خلاله سؤال إصلاح حقيقي للتعليم وكل ما له صلة بهذا الموضوع.
عشرات السنين قضيتها في التعليم والتدريس والبحث وتكوين نساء ورجال التعليم ونشر مجموعة من الكتب الفردية (على نفقتي الخاصة) والجماعية، بل وشاركت في العديد من الندوات والمؤتمرات الثقافية داخل وخارج الوطن، ونزلت ضيفا على قنوات وإذاعات مغربية وعربية، مما جعلني، نسبيا “أتمكن”، إلى حد ما، من معرفة بعض مواطن الضعف في منظومة الكتاب، لكن ما السبيل لجعلها بين يدي من يقرر في شأن الكتاب؟.
كيف سيكون ردنا، حينما نقرأ أن معرضا للكتاب في بلد عربي، بيع فيه رقم أقل مما استهلك فيه من وجبة من الوجبات المعروضة في مطعم داخل هذا المعرض؟. كيف سيكون ردنا حينما تسأل طالبا حاصلا على الإجازة في أي تخصص من التخصصات، ولم يسبق له أن قرأ كتابا واحدا، بل كان يكتفي بملخصات أستاذه الذي يعيد تلخيصها من جديد لحفظها وتوظيفها للإجابة؟. ما موقع القراءة والكتاب والكاتب، الخ، في منظوماتنا العربية؟. هل تعلمنا مدرستنا كيف نقرأ؟ وهل تختبرنا في كيفية القراءة؟. هل وهل؟؟.
ويبقى السؤال دوما مطروحا، هل قدر لنا نحن العرب، أن ننشغل فقط بأسئلة التطاحنات المذهبية والطائفية والقبلية؟. لماذا لازلنا خارج التاريخ، ولم نستطع أن نلج محطة من محطاته العديدة؟. وهل من الممكن ولوج هذه المحطات خارج سياق العقل/العلم؟. هل استفدنا من دروس محنة ابن رشد والحلاج وابن المقفع، وغيرهم، وما أكثرهم، لاسيما في سجلنا الثقافي العربي، حيث بمجرد من يتحرك من أجل التفكير خارج سياق السرب، يكون الرد عليه “بعنف” حد تكفيره وزندقته؟. من كفره؟ ولماذا كفره؟ من الرابح من تكفيره؟. هي الأسئلة التي علينا تجديد طرحها، لعلنا نجد فيها ضوءا هاربا من الممكن القبض عليه والتصالح مع ذواتنا، لاسيما حينما نطرح مثل هذه الأسئلة في كتبنا وسينمانا، في أفق الكشف عن العلل العديدة التي تنخر عظامنا في صمت، وتقوي من هشاشة ثقافية معرقلة دوما لخلخة بقية الهشاشات في هذا المحيط العربي الذي في اعتقادي، يتوفر على مقومات عقلية وروحية عديدة من الممكن، إن التفت إليها، قد تساعده على خلخلة هذه الهشاشة الثقافية التي تنخر العديد من فئاته.
د.الحبيب ناصري
كاتب مغربي
Check Also
🟢 مراكش تشهد حملة غير مسبوقة على أصحاب الدراجات النارية بمختلف شوارع المدينة الحمراء
المغربية للأخبار / هشام ملاس تشهد مختلف شوارع المدينة الحمراء و كذلك ساحة جامع الفنا …